ليس بكالفن وحده

نظرة لمساهمة أولريخ زوينجلي في مسيرة حركة الإصلاح

في جميع قواميس اللاهوت المسيحي ترد المقالات التي تناقش حياة وإسهامات وفكر زوينجلي دائماً في آخر صفحة من صفحاتها وذلك لأن اسمه يبدأ بآخر حروف الأبجدية الإنجليزية (الحرف Z). وعندما نعود إلى الواقع الإنجيلي نكتشف أنَّ الأمر سواء، فنحن ننسى في غمرة اهتمامنا وتركيزنا على أكبر روَّاد الإصلاح الإنجيلي، مارتن لوثر وجون كالفن، أن نعير بعض العناية بذلك المصلِح الكبير، فأصبح يحتل ذيل القائمة في أولويات دراستنا لملامح الفكر الإنجيلي المُصلَح. ويؤكد التاريخ أن أفكار زوينجلي قد أسهمت بدور لا يُمكن الاستهانة به أو الغفلة عنه في مسيرة الإصلاح الإنجيلي التي تفجَّرت شرارتها الأولى مع بدايات عصر النهضة الأوروبية. بل يمكن القول بأن زوينجلي، بآرائه وتفسيراته وصياغاته اللاهوتية، قد مهَّد التربة اللازمة لنمو وترعرع الاتجاه الجديد. يعبِّر تشارلز ستو عن تأثير زوينجلي على مسيرة كالفن الإصلاحية فيقول: «لم يكن توجُّه كالفن من نحو زوينجلي إيجابياً بالقدر الكافي، بيد أنه يدين له بالشيء الكثير. فلم يكن لكالفن أن يقوم بعمله البنّاء في جنيف في خمسينيات القرن السادس عشر لو لم يسبقه الدور الإصلاحي الكبير الذي قام به زوينجلي في سنوات التوتر بين عامي 1519 -1531»، لذا ربما يكون من اللائق ونحن نحتفل في هذا العدد من مجلّة الهدى بعامٍ جديد في تاريخ حركة الإصلاح، أن نتوقف ولو قليلاً أمام حياة الرجل الذي ظل حتى الآن بطلاً في الظل.

* نشأة زوينجلي وحياته

وُلد هولدريخ (أولدريخ) زوينجلي في الأول من يناير عام 1484، بعد أسابيع قليلة من مولد مارتن لوثر، في قرية صغيرة من قرى جبال الألب التي تطل على بحيرة زيوريخ. وقد بدت ملامح نبوغه مبكراً فتخرَّج في جامعة فيينا عام 1505 وتمَّت رسامته في العام التالي مباشرةً ليصبح راعياً لمنطقة جلاروس حيث قضى هناك حوالي عشر سنوات منكبَّاً، بجانب عمله الرعوي، على دراسة الكلاسيكيات الأدبية والكتابات الآبائية وأسفار الكتاب المقدَّس في آنٍ معاً. ويتحدث زوينجلي نفسه عن اختباره في تلك السنوات قائلاً: «عندما... بدأت أُخضع نفسي بالتمام للكتاب المقدَّس كانت الفلسفة واللاهوت التعليمي يقترحان عليَّ دائماً المجادلات، أخيراً وصلت إلى هذا إذ فكرت قائلاً: ينبغي عليك ترك كل ذلك وتتعلم المعنى الذي يقصده الله من كلمته البسيطة».

في عام 1516 انتقل زوينجلي إلى مقاطعة أينشيدلن حيث بدأ في طرح أفكاره اللاهوتية فكان يعظ بأن المسيح، وليس العذراء مريم، هو سبيلنا الوحيد نحو الخلاص، وبدأ نجمه كواعظ يلمع في الأفق. في عام 1518 أصبح راعياً في مدينة زيوريخ وشرع من خلال وعظه التفسيري للكلمة في التعبير عن مبادىء عصر الإصلاح وعقائده وصياغتها.

وفي مجادلةٍ لاهوتية عامَّة شهدتها مدينة زيوريخ في عام 1522 وضع زوينجلي الإطار العام لأفكاره المُصلَحة في صورة سبعٍ وستين مادة شملت الكثير من الإصلاحات العقائدية، إذ نادى بأن المسيح قد قدَّم نفسه ذبيحة وبالتالي يجب رفض فكرة أن القداس الإلهي يقدم ذبيحة. كذلك رفض التبتُّل وأنهى تقديس الصور واستخدام اللاتينية في العبادة العامة. في عام 1524 تزوج زوينجلي، وفي عام 1525 قاد خدمة العشاء الرباني حيث قدَّم العنصرين للمتعبدين بعد سنوات طويلة من حرمانهم من تناول الكأس. وفي عام 1529 جرت مناظرة لاهوتية هامة بين مارتن لوثر وزوينجلي في مدينة ماربورج الألمانية حيث توافقا على أربع عشرة نقطة لاهوتية من بين خمس عشرة نقطة حيث اختلفا حول مضمون العشاء الرباني. وفي عام 1530 قام زوينجلي بنشر ترجمته للكتاب المقدَّس باللغة الألمانية وفي العام التالي قدَّم للقرَّاء تفسيره لسفرَي إشعياء وإرميا.

ومع توطيد دعائم اللاهوت المُصلَح في سويسرا وجد زوينجلي نفسه متورطاً شيئاً فشيء في الأمور السياسية. وكان ذلك في جزء منه نتيجة لمناداته بواجب الدولة في حماية الفكر اللاهوتي والدفاع عنه. وقد عرَّضه ذلك لهجوم البعض، ومن بينهم مارتن لوثر، الذين اتهموه بأنه يدعو إلى نشر الإنجيل بوسائل عنيفة. لكن فكرته ببساطة كانت أنه، إذا كانت المسيحية حقيقية، فإن مسؤولية الحكومة هي أن تدعمها، بل أن تدخل في تحالفات لتتمم هذا الأمر.

وفي عام 1531 قام التحالف الذي قاده زوينجلي بفرض حصار فاشل لحظر وصول الطعام إلى الكانتونات الكاثوليكية التي قاومت الاتجاهات الإصلاحية، فلم يكن أمام تلك الكانتونات سوى شنّ هجومٍ خاطف في لحظة لم تكن زيوريخ فيها مستعدة لصده. وتوفي زوينجلي في هذه المعركة عن عمر ناهز الـ 47 عاماً.

* أفكار زوينجلي الإصلاحية

لا يمكن لمقالة محدودة كهذه أن تلم إلماماً شاملاً بأفكار زوينجلي الإصلاحية، لكن ربما يكون كافياً في هذا المقام عرض النقاط العشر التي قام بطرحها في مناظرة برن اللاهوتية في يناير من عام 1528:

1-الكنيسة المسيحية المقدَّسة، التي رأسها الوحيد هو الرب يسوع، مولودة بكلمة الله وتتكل عليها ولا تسمع لصوت الغريب.

2- لا تقوم هذه الكنيسة بفرض قوانين على ضمير الشعب لا تتفق مع كلمة الله، ولا تُعتبر قوانين الكنيسة ملزمة إلا بقدر التزامها بالكلمة المقدَّسة.

3- المسيح فقط هو برُّنا وخلاصنا، والوثوق بأي فداء آخر كطريق للخلاص إنما هو إنكار له.

4- لا يمكن التدليل من كلمة الله على أن جسد المسيح ودمه يوجدان مادياً وفعلياً في عنصري الخبز والخمر المقدَّمين في عشاء الرب.

5- يتناقض القداس الذي يتم فيه تقديم المسيح لله الآب عن خطايا الأحياء والأموات مع الكلمة المقدَّسة كما أنه يناقض ذبيحة المخلص وموته على الصليب.

6- علينا التوقف عن توجيه الصلاة للشفعاء والوسطاء الذين ماتوا، فالصلاة توجه إلى يسوع المسيح فقط.

7- ليس هنالك أية إشارة لعقيدة المطهر في الكتاب المقدَّس.

8- وضع الصور في الكنيسة بغرض عبادتها يناقض كلمة الله، لذا يجب تحطيم هذه الصور حيث أنها تشكل خطراً على المؤمنين الذين قد ينجرفون نحو عبادتها.

9- الزواج مسموح للجميع، للكهنة كما للعلمانيين.

10-الحياة الخاطئة تظهر بشاعتها وتتضح بجلاء عندما يعيشها رجال الكهنوت.

من الواضح أن هذه الأفكار اتَّسمت بالحسم الذي قد يجنح نحو بعض العنف في التعبير عنه، بيد أنها في نفس الوقت امتازت بكونها منصَّة الإطلاق التي عليها اعتمد الجيل التالي في بلورة العقيدة المُصلَحة بكل جوانبها والخروج من عباءة الصور الوسطى بكل ما حوته من انغلاقٍ فكري وشططٍ لاهوتي.


طباعة